في ليلة الخامس عشر من شهر ديسمبر عام 2008 .. بدأ القصف الصهيوني لقطاع غزة .. كنت أنا في هذه الأثناء أقيم بالمدينة الجامعية بالجيزة .. كنت في العام الثاني من الجامعة.
عند الفجر وصلتني رسالة من مسؤولي كان نصها: "تكليف: الحضور في تمام السادسة بشقة ك.ط بعد حلق اللحية وعدم اصطحاب أية مصاحف أو أوراق تنظيمية .. احضر بمفردك .. لا تحدث من تقابله من الإخوة في الطريق .. لا أعذار.. لا تأخير .. لا استئذان" ..
دقت الساعة السادسة حين كنت أنا علي باب الشقة .. دخلت لأجد الإخوة متواجدين داخلها .. يبد أن كل أخ كان له موعدا مختلفا حتي لا نلفت الأنظار إلي مكان شقتنا .. فمنهم من جاء ليلا .. ومنهم من جاء فجرا .. ومنهم من أتي بعدي ..
كان الجو يشوبه نوع من الشد منذ دخلت الشقة .. الإخوة كلهم صامتون .. لا أحد يتكلم .. الكل ينظر للآخر بقلق غريب .. والأخ المسؤول يعنف أي أحد يحاول الحديث أو احداث أي صوت .. كان جوا مشحونا بالقلق والريبة !
اكتمل العدد في تمام الثامنة .. أغلق المسؤول كل النوافذ وأطفأ كل الأنوار .. لكن ضوء الصباح كان كافيا لنري بعضنا ..
كعادة معسكرات الإخوان وقفنا في طابور نستمع إلي تعليمات المسؤول حول اليوم .. كانت التعليمات هذه المرة غريبة بعض الشيء ..
المكان كله مليء بالمخبرين .. الأمن يتعقب المكان .. الشقة لا أحد يعلم أن بها أحدا .. أي صوت سيخرج معناه اعتقالنا جميعا !
استطاع المسؤول ببراعة أن يزرع داخلنا القلق والخوف .. ولأن أحد منا لم يكن قد أفطر بعد .. فقد قرر المسؤول أيضا أن اليوم صيام .. وأن الطعام سيكون ساعة المغرب .. ولمرة واحدة فقط .
قضينا يومنا كله في القرآن ومدارسة القرآن والدروس الإيمانية الخاشعة .. وبينما نحن كذلك إذا ارتفعت أصوات بالحجرة المجاورة بين المسؤول ونائبه ..
لم يتحرك أحد منا من مكانه إلي ان خرج المسؤول وطلب أن نقف طابورا مرة أخري .. وجاء النائب ووقف خلفه .. فقال له قف في الطابور .. نفذ النائب الأمر ..
لم يكن هناك صوت بالمكان .. إلا أن المسؤول أوقف النائب فجأة وقال له: لماذ كنت تتكلم؟ .. قال النائب: لم أتكلم .. قال المسؤول بغضب: تقصد أنني كاذب .. عليك أن تحمل أمتعتك وترحل حالا .. قال له النائب: أنا أسف .. انتظر عقوبة أخري ! .. قال المسؤول: إذن نم علي ظهرك وليمر كل المعسكر من فوقك !
ارتج المكان كله بعد هذه الكلمات ! .. ورفض الأخ تنفيذ الأمر وحمل أمتعته وغادر .. غادر المسؤول خلفه ليحضر الطعام ..
كنا نحن لا نزال كما تركنا .. لا حديث ولا كلام .ز كان الظلام قد بدأ يزحف علي الغرفة .. ولا يزال المسؤول رافضا أن يضاء النور !
في هذه الأثناء دخل علينا مشرف الكلية -وهو أستاذ جامعي- وسألنا: أين المسؤول؟ .. رد أحدنا: في طريقه لإحضار الطعام .. قال: وأين النائب؟ .. قال أحدنا: لقد تعارك مع المسـ.. تنبه فجأة إلي أعيننا التي راحت ترمقه بنظرات الإنكار قبل أن يعدل من وضعه يقول: لا أعرف .. اسأل المسؤول!
دخل المسؤول بعدها وليس معه أي طعام !
كان كل ما في يده فرع شجرة ملئية بالأوراق !
وضعه في وسطنا وقال: كلوا ..
تبادلنا الأنظار وقلنا: ناكل إيه؟
قال: اللي قدامكم .. عايزين كباب مثلا؟
قال معظمنا: خلاص .. مش عايزين !
قال: لا .. تكليف أن يأكل كل واحد منكم علي الأقل خمس ورقات من هذه الشجرة!
وفعلنا .. بل لقد أكلنا أكثر حتي كادت الفرع أن ينتهي .. فقد كان الجوع والإرهاق يقتلنا .. وكنا ننتظر اللحظة التي سننام فيها بأي شكل من الأشكال !
دخل علينا بعدها الأخ المسؤول بإبريق كبير من الشاي .. أو ما كنا نظن أنه شايا .. ووضع لكل منا في كوبه مقدارا .. وقال: اشربوا .. بدأنا نشرب فإذا به أغرب وأقسي مشروب شربناه في حياتنا .. عرفنا بعد ذلك أنه كان شايا موضوع علي ماء بارد وبدل السكر تم وضع ملح طعام !
كان بعضنا يسقط من فرط الإرهاق والجوع وقلة النوم والتركيز الشديد طول اليوم .. إلا أن المسؤول طلب أن نتجهز لصلاة القيام !
صلينا القيام .. لا أحد يدري كم صلينا .. ولا ماذا قرأنا .. ثم أذن الفجر ..
كان أذان الفجر بمثابة المخلص بالنسبة لنا .. فقد كان يعني أن المعسكر قد انتهي .. وأننا يمكنا المغادرة الآن !
وفجأة .. اهتز المكان كله علي دقات علي الباب كالمطرقة .. افتح الباب .. فزعنا .. قال المسؤول لا أحد يتحرك .. لا أحد يتنفس .. ظلت الطرقات تدق حتي ملت .. وابتعدت !
قال المسؤول بعدها: استعدوا لكلمة الختام: بدأنا نتجهز نفسيا لمغادرة هذا العذاب .. قال المسؤول بلا مقدمات: إخوانكم في غزة يحتاجون 20 مقاتلا ليقوموا بعملية فدائية في غزة .. وقد تم اختياركم .. وستتحركون خلال أيام .. هل عن أحدكم اعتراض؟ .. لم ينطق أحد .. قأكمل قالا: سبحانك اللهم وبحمدك .. أشهد أن لا إله إلا أنت .. أستغفرك وأتوب إليك!
جمع كل منا أدواته بلا كلام .. كان كل منا في واد .. من يفكر كيف سيودع أهله .. ومن يفكر كيف سيحارب .. ومن يتخيل شكل الطريق .. الجنود .. الموت !
وفجأة ..
دق جرس الباب ..
دخل الأخ النائب الذي كان قد غادر منذ ساعات مبتسما وفي يده أكياس طعام يفوح منها الرائحة .. تعانق هو والمسؤول عناق المحبين .. والتفتنا لنا .. وضحكا !
لم نكن بعد قد استوعبنا الموقف .. ولم ننتبه إلا والمسؤول يقول: يا إخوة .. إخوانكم في غزة لم يطلبوا أحدا .. كان هذا يوم جهادي .. عليكم أن تعرفوا أن هذا اليوم قادم لا محالة .. سنحارب اليهود يا شباب .. إن عاجلا أو آجلا !
دخل مشرف الكلي وعانق النائب والمسؤول .. قبل أن يقول المسؤول: لم يسألني أحدكم: لماذا طردت النائب رغم أنه لم يتكلم ؟
قلنا : لا نعرف .. قال عليكم أن تعلموا أن القيادة لابد من احترام رأيها .. ففي لحظات الحرب لا يشترط الاقتناع .. وعليكم أن تعرفوا أن السرية في الحرب هي كل شيء .. لا تخبر أحدا بشيء .. حتي لو كان القائد الأعلي .. فقط لا تخبر إلا مسؤولك .. مسؤولك فقط .. والآن قد انتهي المعسكر .. سنأكل وننصرف .. ولكن إياكم أن تحدثوا أحدا بما حصل اليوم .. ولا تتحدثوا أنتم به بينكم .. الأمر كأن لم يكن !
أكلنا الطعام الدسم .. وشربنا المياه الغازية .. وعدنا إلي بيوتنا .. ولم أحك لأحد ما حصل في هذا اليوم حتي يومنا هذا .. ولا حتي أعز أصدقائي .. ولولا الثورة ما حكيته !
ــــــــــــــــــــــــــ