كنت أمشي في إحدى ليالي صيف لبنان - التي خجل فيها القمر أن يطلع - على الطريق في القرية التي أسكن فيها .. كنت وحيدا .. وفي صدري شيىء من الحزن على أمر لم أعرفه. فإذا بي ألمح رجلين عجوزين يمشيان و على كتفهما صندوق طويل ... فإقتربت بالفانوس الذي أحمله. تابوت؟؟. تعجبت من المشهد. إقتربت منهما فإذا بهما يردّدان "الله يرحمها".
"عوافي .. العوادة بسلامتكم .. خليني إحمل معكم"قال أحدهما: "الله يسلّمك"
قلت في نفسي "ما أقساهم الناس .."
.. وجدت أن التابوت خفيف جدا (غريب !!)
- "أديش مبدئيا عمرا يا حاج ؟ "
أجاب: "المبادىء يا إبني أهم شي بالحياة .. إسقيها بتعيش .. تركها بتموت".
- "لأ يا حاج .. أنا عم بسأل عن عمرا" .. وشددت على كلمة "عمرا".
قال: "أكبر مني ومنك ومن كل الناس"
ظننت أن كبر السن قد أثر على إستيعابه, فلم أكرر السؤال بعدها. ثم سكتّ شاعرا هيبة المشهد الذي أنا فيه ..
وصلنا إلى المقبرة وكنت طوال الطريق ساكتا و محتارا بين أن أفكر بالتابوت الخفيف الذي نحمله وبين أن أفكر في الأجوبة التي سمعتها. وضعنا النعش على الأرض و إقترحت أن أحفر الأرض كي لا أتعبهما. فقالو "لا لن نحفر .. سنترك التابوت هكذا على الأرض"..
- شوووووو ؟!! بس يا حاج ---
فإذا بهما يديران إليّ ظهرهما ويتلاشيان بين الأشجار.
بدأ "الفار يلعب في عبّي" .. وشكيت في أن في الأمر جريمة قتل أو ما شابه ذلك. تلبّكت ولم أعرف ماذا أفعل.
مر الوقت بسرعة و أنا جالس في المقبرة عاجر عن التفكير في أي شيىء غير الذي حدث. ثم شعرت وكأن الوقت مضى بسرعة دون أن أشعر - أين أنا ؟ في مقبرة ؟ وفي الليل ؟ ولوحدي ؟ .. نظرت إلى التابوت .. فخطر في بالي أن أفتحه .. لعلّي ...
إقتربت منه ورفعت الغطاء ... "يا الله !!"
- ما هذا !! .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..
- ما هذا ؟!! هل هذه لعبة ؟؟ ... "الملاعين!!" ... أين الجثة ؟؟!!
هنا وفي تلك اللحظة فقدت جنوني - أقصد عقلي - وراح قلبي "ينطح" صدري وبدأت حروف كلماتي تدخلفيبعضها ...
ثم قرّبت الفانوس من فتحة التابوت لكي أتأكد ... فإذا بها حروف محفورة داخل التابوت ظننتها في البداية آيات من القرآن الكريم. دققت فيها جيدا وحاولت أن أقرأها ...
"الم" .. "با" .. "ذ" - آسف -"د" .. "ىء"
إنا لله وإنا إليه راجعون.