slaf elaf
22-02-2011, 10:41 AM
د. راغب السرجاني
http://www.islamstory.com/images/stories/articles/41/19194_image002.jpg (http://forum.islamstory.com/19526-%C5%E4%E5%C7-%E1%ED%D3%CA-%DD%CA%E4%C9-2-3-a.html)
ما زالت هناك آراء كثيرة تتناولها وسائل الإعلام المختلفة في مصر وغيرها من دول العالم تتحدث عن الثورة المصرية والخلفية الشرعية لها..
وتحدثت في مقالي السابق "إنها ليست فتنه 1/3 (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-1)" عن التأويلات المختلفة لحديث رسول الله
: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا..."[1] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn1), وذكرت أنه ليس كل من حمل سيفًا ليقاتل مسلمًا يعتبر آثمًا, وذكرت أدلة هذا الأمر, مع العلم أن الثائرين بمصر لم يحملوا سيفًا ولا سلاحًا أصلاً، إنما خرجوا بشكل سلمي في غاية الرقي.
وفي هذا المقال أناقش بعض التفسيرات لأحد أحاديث رسول الله
الصحيحة, والذي دار بين العلماء جدل كبير حول تفسيره وتأويله, ومن ثَم اختلف الموقف الفقهي اختلافًا بيِّنًا, ولكن قبل الخوض في هذا التفسير ألفت الأنظار إلى أهمية هذه الدراسة وهذا التحقيق حتى بعد نجاح الثورة المصرية (http://www.islamstory.com/%D9%85%D9%86-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A 9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8 A%D8%A9)؛ وذلك لأمرين:
أما الأمر الأول فهي شهادة للتاريخ ولآليات التغيير الشرعية والموافقة للمنهج الإسلامي الأصيل, فلا تُتهم هذه الثورة الكريمة بأنها "مَفْسدة"، كما ذكر لي أحد الشباب في ميدان التحرير (http://www.islamstory.com/%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8 A%D8%B1-%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88).
وأما الأمر الثاني فهو في غاية الأهمية, وهو أن كثيرًا من الدول العربية تحتاج بشدة إلى هذه الدراسة؛ لأنها تمر بنفس الظروف التي تمر بها مصر, ومن ثَم يبقى خيار الثورة خيارًا مناسبًا لكثير منها، إذا ثبت شرعيته وموافقته لبنود الشريعة.
وأما الحديث الذي نحن بصدده في هذا المقال فهو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت t قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"[2] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn2).
واستنتج بعض العلماء من هذا الحديث أن الخروج على أي حاكم مسلم غير جائز, ويلزم تكفيره قبل الخروج عليه, ومن ثَمَّ أنكروا على المصريين ثورتهم, وزعموا أنهم آثمون, وأن قتلاهم ليسوا بشهداء..
فهل هذا هو التأويل الوحيد للحديث أم أن هناك معاني أخرى لم يتطرق إليها هؤلاء العلماء الأفاضل تُغيِّر من رؤيتهم للأحداث؟! ولنا بعض التعليقات على الحديث والتي قد توضح الرؤية في هذا الأمر..
أولاً: لماذا كان الخروج على الحاكم مقرونًا برؤية "كفر" بواح, ولم يقل رسول الله : إلا إذا كان الحاكم كافرًا؟
إنني أرى أن رسول الله
أراد أن يرفع عنا حرج تكفير الحاكم قبل الخروج عليه, فهذا الحاكم قد يأتي بأعمال "كفرية" وهو ليس بكافر, وتوصيف "العمل" بالكفر أسهل كثيرًا من توصيف "شخص ما" بالكفر.
والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه بصراحة هو: هل هناك "أعمال كفرية" في ظل حكم النظام المصري البائد؟ مع إعلاني الواضح الآن أنني لا أهدف إلى تكفير الأفراد.
إن أخطر ما نواجهه في مصر وكثير من الدول العربية أنها عطلت شريعة الله
عمدًا وارتضت لأنفسها دساتير وضعية مستوحاة من شرائع مختلفة, منها الإسلامي, ومنها الغربي الوضعي, ولم يكن هذا الاستبدال نتيجة جهل أو عدم دراية, بل عن عمدٍ بدعوى أن التشريعات الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو البلجيكية أو الأمريكية أفضل في جزئية ما من التشريع الإسلامي، الذي أوحى به رب العالمين!
ما توصيف هذا "العمل"؟
ما توصيف من قال: إن البيع مثل الربا؟
وما توصيف من يخرج التصاريح للراقصات الخليعات, ويسمح بالإباحية في وسائل الإعلام, ولا يدَّعي أن هذا منكر ينبغي محاربته, بل في منتهى التحدي للشريعة يعطيهم الجوائز والحوافز, ويعتبرهم قدوات للشباب؟
وما توصيف موالاة اليهود الصهاينة على حساب الفلسطينيين المسلمين؟
وما توصيف تعطيل الزكاة؟
وما توصيف فتنة (http://forum.islamstory.com/19526-%C5%E4%E5%C7-%E1%ED%D3%CA-%DD%CA%E4%C9-2-3-a.html) الناس عن دينهم في السجون والمعتقلات, وتعذيبهم تعذيبًا احترافيًّا باستخدام أجهزة مستوردة لذلك خِصِّيصى؟!
إن هذه أعمال كفرية في رأي كثير من العلماء, وإن كان المعظم يتحرج من تكفير الفاعل, وأنا معهم؛ لأن عملية التكفير لا بُدَّ أن تسير في خطوات معينة من المناظرة والتبيين وسماع وجهات النظر الدافعة لهذه الأعمال..
لكن على العموم، فالرسول
أخرجنا من هذا المأزق بتوضيحه أن الخروج على الحاكم لا يستلزم تكفيره هو شخصيًّا, ولكن لأنه ارتضى وجود أعمال كفرية في بلده, ولم يتحرك لتغييرها, بل على العكس فعلها وباركها وشجَّع عليها.
ثانيًا: سؤال قد يُغيِّر تمامًا من رؤية المفسرين للحديث! ما المقصود بالكفر في الحديث؟! هل هو الكفر المخرِج من الملة؟ أم هو نوع آخر من الكفر؟
اقرأ هذه المفاجأة..!!
يقول النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم: "والمراد بالكفر هنا المعاصي, ومعنى (عندكم من الله فيه برهان) أي: تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم, ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام"[3] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn3).
ونقل ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري نفس الكلمات عن النووي..
إن هذه رؤية جديدة لقارئ الحديث..
فلو كان المقصود في الحديث هو منازعة السلطان عند رؤية المعاصي, فما أكثر المعاصي التي نراها في البلاد, ولا يختلف عليها اثنان!!
وبهذا المقياس فإنّ نهب ثروات البلد بالمليارات يعد معصية كافية لخروج الناس على حاكمها الذي يشجع هذا النهب؛ لأن جميع الشعب بلا استثناء يعاني من هذا النهب, فضلاً عن بقية المعاصي والشرور.
لكن ما الذي دعا العلماء لتفسير الكفر بالمعصية؟
لأن هذا هو الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها, فليس من المعقول أن الشريعة التي جعلها الله
هداية للناس وراحة لهم تكون هي القاضية بأن يُترك الحاكم الفاسد الظالم يرتكب كل المنكرات, ويشجع على كل المعاصي, وينتشر فساده في كل بقعة في الدولة بما له من طاقات وإمكانيات.. وليس من المعقول أن الشريعة العادلة تقضي بأن يضحي الشعب كله من أجل بقاء الظالم في كرسيِّه, وليس من المعقول أن تقبل الشريعة الحكيمة لأمة الإسلام أن تظل هذه الأمة المجيدة مهينة ومُستنزَفة وتابعة لغيرها, وذليلة بين الأمم عدة عشرات من السنين؛ لأنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما دام مسلمًا.
ليس هذا هو روح الشريعة, ولا مقصدها, وليس هذا هو الغرض من الخلق, فقد وضَّح لنا الله
غاية الخلق فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فيستحيل أن تكون الشريعة حاكمة بأن تظل الأجيال تلو الأجيال لا تعبد الله حقًّا, وتعيش في جو موبوء من المعاصي والكبائر تحرُّجًا من الخروج على حاكمٍ بالَغَ في الإجرام والتعنت والبغي والعدوان.
لكل ما سبق تأول النووي وابن حجر وغيرهما كلمة الكفر على أنها المعاصي؛ لكي يتحقق مقصد الشريعة الأول, وهو الحفاظ على دين الناس, ولكي تتحقق كذلك بقية مقاصد الشريعة مثل الحفاظ على النفس والمال والعقل والنسل, وكل ذلك ضائع في ظل حكومات الفساد.
وليس هذا فقط, بل إن العلماء الأجلاء استندوا إلى روايات أخرى للحديث بيَّنت أن المقصود فعلاً من كلمة الكفر في هذا الحديث هو المعصية, فقد وقع في رواية حبان أبي النضر: "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيةً للِّهِ بَوَاحًا"[4] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn4), وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ, عن جنادة: "مَا لَمْ يَأْمُرُوكَ بِإِثْمٍ بَوَاحًا"[5] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn5). فهذه الروايات تفسِّر كلمة "الكفر" التي جاءت في الحديث بالمعصية والإثم, وهذا أقرب إلى مقاصد الشريعة كما وضَّحنا.
ثالثًا: تعارف العلماء على أن هناك نوعين من الكفر:
كفر عملي, وكفر اعتقادي, وهذا يتفق مع ما ذكرته في النقطة الأولى؛ فالعلماء يقولون: إن هناك من يرتكب عملاً كفريًّا ولكنه يعتقد في داخله أن شرع الله حق, ولكنه يخالف لضعفٍ في نفسه, فهذه كفره عملي وليس اعتقاديًّا, وهو أهون؛ إذ إنه لا يُخرِج من الإسلام, ولكن يُفسَّق صاحبه. أما الذي يخالف الشريعة اعتقادًا منه أن تشريع البشر أفضل من تشريع الرب في نقطة ما, فهذا كفره اعتقادي, وهو خطير؛ لأنه مُخرِج من الإسلام.
ولأننا لا نطَّلع على قلوب الحكام, فنحن نقول: إن التحاكم إلى غير شرع الله
كفر عملي على الأقل, وقد يكون اعتقاديًّا, ولكن لا نبني على هذا دون تمحيص.
وأول من تكلم في هذه النقطة ابن عباس رضي الله عنهما, وقال ذلك عند تفسيره لقول الله
: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44], فقال: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه, إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة, بل كفر دون كفر"[6] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn6).
وتبعه في ذلك عطاء رحمه الله، فقال في تفسير كلمة (الكافرون)، (الظالمون), (الفاسقون): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم"[7] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn7).
والمرجع في النهاية للتفرقة بين النوعين من الكفر هو الاعتقاد والنية, فلو كان يحكم بغير ما أنزل الله ضعفًا في نفسه مع قناعته أن حكم الله هو الحق، فهذا كافر كفرًا عمليًّا, وهو كفر دون كفر لا يخرج من الملة, وإن كان يحكم بغير ما أنزل الله استحلالاً لهذا الفساد, وقناعةً به، فإن هذا كفر اعتقادي مُخرِج من الملة بنص الآية.
وأسقط العلماء بعد ذلك هذه القاعدة على أحاديث وآيات كثيرة؛ فقد قال رسول الله
مثلاً: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"[8] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn8). فهل يكفر كل تارك للصلاة؟ قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: إن هذا كفر دون كفر ما دام غير مُستحِلٍّ للترك, أما إن كان مستحلاًّ فهو كافر كفرًا اعتقاديًّا. وقال الإمام أحمد: إنه كافر كفرًا اعتقاديًّا في الحالتين؛ لمطلق اللفظ في الحديث. ولكن الجمهور على خلاف هذا.
فلماذا قَبِلنا أن نقلل كلمة "الكفر" في حديث الصلاة من الكفر الاعتقادي إلى الكفر العملي حمايةً للمسلمين الذين لا يُصلُّون, مع أن عدم صلاتهم تعود عليهم وحدهم بالضرر, ورفضنا أن نسمِّي الكفر في حديث "الحاكم" كفرًا عمليًّا؛ بمعنى أنه معصية لا تُخرِج من الملة, مع أن ضرر الحاكم الظالم يعود على الأمة بكاملها وليس عليه هو وحده؟!
إن الأولى هنا أن نقلِّل من كلمة الكفر في حديث الحاكم؛ حتى نتيح الفرصة للخروج عليه إذا كان ناشرًا للمعاصي حتى نحفظ دين الناس, ونحقِّق لهم مقاصد الشريعة.
ومثل ما قلناه في حديث الصلاة نجده في أحاديث كثيرة، قال أغلب العلماء: إن الكفر المقصود فيها ليس هو الكفر المخرج من الملة.
ومثال هذه الأحاديث: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"[9] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn9). وبديهي أنني لو قاتلت جاري أو صاحبي لا أكفر بذلك, فهو كفر دون كفر؛ أي معصية كبيرة.
وكذلك قوله
: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ، فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ"[10] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn10). فهل إذا هرب عبدٌ من مواليه خرج بذلك عن الإسلام، أم أن هذا كفر دون كفر؟
وأيضًا قوله
: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ"[11] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn11). والحديث في سنن الترمذي, وهو حسن, وقد علَّق عليه الترمذي بقوله: وفُسِّر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: "فقد كفر أو أشرك" على التغليظ؛ أي أن الحالف بغير الله لا يكفر حقيقةً، إنما يأتي منكرًا عظيمًا استحقّ أن يُوصف بالكفر مع أنه ليس كفرًا حقيقيًّا.
وذكر الله في حق آكلي الربا -كما جاء في سورة البقرة- أنهم خالدون في جهنم, فقال: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. ثم عقَّب على ذلك بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. والكَفَّار هو شديد الكفر, فهل الذي يتعامل بالربا يكفر أم أن هذا للتغليظ, وهو كفر دون كفر؟!
ومثال ذلك كثير جدًّا, وهو يدفعنا إلى رؤية جديدة للحديث الذي ينهى عن منازعة السلطان؛ حتى لا يعم فساد الحكام, خاصة أن الجميع يعلم أنَّ مَن أَمِنَ العقوبة فسد حاله, فلو ضمن الحاكم الظالم أن أحدًا لن يخلعه لظلمه وفساده لبالَغَ في هذا الظلم والفساد وطغى, ولكان قدوةً لكل الظالمين. أما إذا خلعه شعبه نتيجة هذا الظلم والفساد, فإن هذا يكون رادعًا لغيره, وهذا أيضًا يتناسق مع روح الشريعة التي فرضت الحدود التي تبدو لبعض الناس قاسية, لكنها في حقيقة الأمر رادعة لبقية الناس أن يأتوا نفس المنكر.
http://www.islamstory.com/images/stories/articles/41/19194_image002.jpg (http://forum.islamstory.com/19526-%C5%E4%E5%C7-%E1%ED%D3%CA-%DD%CA%E4%C9-2-3-a.html)
ما زالت هناك آراء كثيرة تتناولها وسائل الإعلام المختلفة في مصر وغيرها من دول العالم تتحدث عن الثورة المصرية والخلفية الشرعية لها..
وتحدثت في مقالي السابق "إنها ليست فتنه 1/3 (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-1)" عن التأويلات المختلفة لحديث رسول الله
: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا..."[1] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn1), وذكرت أنه ليس كل من حمل سيفًا ليقاتل مسلمًا يعتبر آثمًا, وذكرت أدلة هذا الأمر, مع العلم أن الثائرين بمصر لم يحملوا سيفًا ولا سلاحًا أصلاً، إنما خرجوا بشكل سلمي في غاية الرقي.
وفي هذا المقال أناقش بعض التفسيرات لأحد أحاديث رسول الله
الصحيحة, والذي دار بين العلماء جدل كبير حول تفسيره وتأويله, ومن ثَم اختلف الموقف الفقهي اختلافًا بيِّنًا, ولكن قبل الخوض في هذا التفسير ألفت الأنظار إلى أهمية هذه الدراسة وهذا التحقيق حتى بعد نجاح الثورة المصرية (http://www.islamstory.com/%D9%85%D9%86-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A 9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8 A%D8%A9)؛ وذلك لأمرين:
أما الأمر الأول فهي شهادة للتاريخ ولآليات التغيير الشرعية والموافقة للمنهج الإسلامي الأصيل, فلا تُتهم هذه الثورة الكريمة بأنها "مَفْسدة"، كما ذكر لي أحد الشباب في ميدان التحرير (http://www.islamstory.com/%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8 A%D8%B1-%D9%81%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88).
وأما الأمر الثاني فهو في غاية الأهمية, وهو أن كثيرًا من الدول العربية تحتاج بشدة إلى هذه الدراسة؛ لأنها تمر بنفس الظروف التي تمر بها مصر, ومن ثَم يبقى خيار الثورة خيارًا مناسبًا لكثير منها، إذا ثبت شرعيته وموافقته لبنود الشريعة.
وأما الحديث الذي نحن بصدده في هذا المقال فهو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت t قال: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"[2] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn2).
واستنتج بعض العلماء من هذا الحديث أن الخروج على أي حاكم مسلم غير جائز, ويلزم تكفيره قبل الخروج عليه, ومن ثَمَّ أنكروا على المصريين ثورتهم, وزعموا أنهم آثمون, وأن قتلاهم ليسوا بشهداء..
فهل هذا هو التأويل الوحيد للحديث أم أن هناك معاني أخرى لم يتطرق إليها هؤلاء العلماء الأفاضل تُغيِّر من رؤيتهم للأحداث؟! ولنا بعض التعليقات على الحديث والتي قد توضح الرؤية في هذا الأمر..
أولاً: لماذا كان الخروج على الحاكم مقرونًا برؤية "كفر" بواح, ولم يقل رسول الله : إلا إذا كان الحاكم كافرًا؟
إنني أرى أن رسول الله
أراد أن يرفع عنا حرج تكفير الحاكم قبل الخروج عليه, فهذا الحاكم قد يأتي بأعمال "كفرية" وهو ليس بكافر, وتوصيف "العمل" بالكفر أسهل كثيرًا من توصيف "شخص ما" بالكفر.
والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه بصراحة هو: هل هناك "أعمال كفرية" في ظل حكم النظام المصري البائد؟ مع إعلاني الواضح الآن أنني لا أهدف إلى تكفير الأفراد.
إن أخطر ما نواجهه في مصر وكثير من الدول العربية أنها عطلت شريعة الله
عمدًا وارتضت لأنفسها دساتير وضعية مستوحاة من شرائع مختلفة, منها الإسلامي, ومنها الغربي الوضعي, ولم يكن هذا الاستبدال نتيجة جهل أو عدم دراية, بل عن عمدٍ بدعوى أن التشريعات الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو البلجيكية أو الأمريكية أفضل في جزئية ما من التشريع الإسلامي، الذي أوحى به رب العالمين!
ما توصيف هذا "العمل"؟
ما توصيف من قال: إن البيع مثل الربا؟
وما توصيف من يخرج التصاريح للراقصات الخليعات, ويسمح بالإباحية في وسائل الإعلام, ولا يدَّعي أن هذا منكر ينبغي محاربته, بل في منتهى التحدي للشريعة يعطيهم الجوائز والحوافز, ويعتبرهم قدوات للشباب؟
وما توصيف موالاة اليهود الصهاينة على حساب الفلسطينيين المسلمين؟
وما توصيف تعطيل الزكاة؟
وما توصيف فتنة (http://forum.islamstory.com/19526-%C5%E4%E5%C7-%E1%ED%D3%CA-%DD%CA%E4%C9-2-3-a.html) الناس عن دينهم في السجون والمعتقلات, وتعذيبهم تعذيبًا احترافيًّا باستخدام أجهزة مستوردة لذلك خِصِّيصى؟!
إن هذه أعمال كفرية في رأي كثير من العلماء, وإن كان المعظم يتحرج من تكفير الفاعل, وأنا معهم؛ لأن عملية التكفير لا بُدَّ أن تسير في خطوات معينة من المناظرة والتبيين وسماع وجهات النظر الدافعة لهذه الأعمال..
لكن على العموم، فالرسول
أخرجنا من هذا المأزق بتوضيحه أن الخروج على الحاكم لا يستلزم تكفيره هو شخصيًّا, ولكن لأنه ارتضى وجود أعمال كفرية في بلده, ولم يتحرك لتغييرها, بل على العكس فعلها وباركها وشجَّع عليها.
ثانيًا: سؤال قد يُغيِّر تمامًا من رؤية المفسرين للحديث! ما المقصود بالكفر في الحديث؟! هل هو الكفر المخرِج من الملة؟ أم هو نوع آخر من الكفر؟
اقرأ هذه المفاجأة..!!
يقول النووي -رحمه الله- في شرحه لصحيح مسلم: "والمراد بالكفر هنا المعاصي, ومعنى (عندكم من الله فيه برهان) أي: تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم, ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام"[3] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn3).
ونقل ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري نفس الكلمات عن النووي..
إن هذه رؤية جديدة لقارئ الحديث..
فلو كان المقصود في الحديث هو منازعة السلطان عند رؤية المعاصي, فما أكثر المعاصي التي نراها في البلاد, ولا يختلف عليها اثنان!!
وبهذا المقياس فإنّ نهب ثروات البلد بالمليارات يعد معصية كافية لخروج الناس على حاكمها الذي يشجع هذا النهب؛ لأن جميع الشعب بلا استثناء يعاني من هذا النهب, فضلاً عن بقية المعاصي والشرور.
لكن ما الذي دعا العلماء لتفسير الكفر بالمعصية؟
لأن هذا هو الذي يتفق مع روح الشريعة ومقاصدها, فليس من المعقول أن الشريعة التي جعلها الله
هداية للناس وراحة لهم تكون هي القاضية بأن يُترك الحاكم الفاسد الظالم يرتكب كل المنكرات, ويشجع على كل المعاصي, وينتشر فساده في كل بقعة في الدولة بما له من طاقات وإمكانيات.. وليس من المعقول أن الشريعة العادلة تقضي بأن يضحي الشعب كله من أجل بقاء الظالم في كرسيِّه, وليس من المعقول أن تقبل الشريعة الحكيمة لأمة الإسلام أن تظل هذه الأمة المجيدة مهينة ومُستنزَفة وتابعة لغيرها, وذليلة بين الأمم عدة عشرات من السنين؛ لأنه لا يجوز الخروج على الحاكم ما دام مسلمًا.
ليس هذا هو روح الشريعة, ولا مقصدها, وليس هذا هو الغرض من الخلق, فقد وضَّح لنا الله
غاية الخلق فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فيستحيل أن تكون الشريعة حاكمة بأن تظل الأجيال تلو الأجيال لا تعبد الله حقًّا, وتعيش في جو موبوء من المعاصي والكبائر تحرُّجًا من الخروج على حاكمٍ بالَغَ في الإجرام والتعنت والبغي والعدوان.
لكل ما سبق تأول النووي وابن حجر وغيرهما كلمة الكفر على أنها المعاصي؛ لكي يتحقق مقصد الشريعة الأول, وهو الحفاظ على دين الناس, ولكي تتحقق كذلك بقية مقاصد الشريعة مثل الحفاظ على النفس والمال والعقل والنسل, وكل ذلك ضائع في ظل حكومات الفساد.
وليس هذا فقط, بل إن العلماء الأجلاء استندوا إلى روايات أخرى للحديث بيَّنت أن المقصود فعلاً من كلمة الكفر في هذا الحديث هو المعصية, فقد وقع في رواية حبان أبي النضر: "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيةً للِّهِ بَوَاحًا"[4] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn4), وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ, عن جنادة: "مَا لَمْ يَأْمُرُوكَ بِإِثْمٍ بَوَاحًا"[5] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn5). فهذه الروايات تفسِّر كلمة "الكفر" التي جاءت في الحديث بالمعصية والإثم, وهذا أقرب إلى مقاصد الشريعة كما وضَّحنا.
ثالثًا: تعارف العلماء على أن هناك نوعين من الكفر:
كفر عملي, وكفر اعتقادي, وهذا يتفق مع ما ذكرته في النقطة الأولى؛ فالعلماء يقولون: إن هناك من يرتكب عملاً كفريًّا ولكنه يعتقد في داخله أن شرع الله حق, ولكنه يخالف لضعفٍ في نفسه, فهذه كفره عملي وليس اعتقاديًّا, وهو أهون؛ إذ إنه لا يُخرِج من الإسلام, ولكن يُفسَّق صاحبه. أما الذي يخالف الشريعة اعتقادًا منه أن تشريع البشر أفضل من تشريع الرب في نقطة ما, فهذا كفره اعتقادي, وهو خطير؛ لأنه مُخرِج من الإسلام.
ولأننا لا نطَّلع على قلوب الحكام, فنحن نقول: إن التحاكم إلى غير شرع الله
كفر عملي على الأقل, وقد يكون اعتقاديًّا, ولكن لا نبني على هذا دون تمحيص.
وأول من تكلم في هذه النقطة ابن عباس رضي الله عنهما, وقال ذلك عند تفسيره لقول الله
: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44], فقال: "إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه, إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة, بل كفر دون كفر"[6] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn6).
وتبعه في ذلك عطاء رحمه الله، فقال في تفسير كلمة (الكافرون)، (الظالمون), (الفاسقون): "كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم"[7] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn7).
والمرجع في النهاية للتفرقة بين النوعين من الكفر هو الاعتقاد والنية, فلو كان يحكم بغير ما أنزل الله ضعفًا في نفسه مع قناعته أن حكم الله هو الحق، فهذا كافر كفرًا عمليًّا, وهو كفر دون كفر لا يخرج من الملة, وإن كان يحكم بغير ما أنزل الله استحلالاً لهذا الفساد, وقناعةً به، فإن هذا كفر اعتقادي مُخرِج من الملة بنص الآية.
وأسقط العلماء بعد ذلك هذه القاعدة على أحاديث وآيات كثيرة؛ فقد قال رسول الله
مثلاً: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"[8] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn8). فهل يكفر كل تارك للصلاة؟ قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: إن هذا كفر دون كفر ما دام غير مُستحِلٍّ للترك, أما إن كان مستحلاًّ فهو كافر كفرًا اعتقاديًّا. وقال الإمام أحمد: إنه كافر كفرًا اعتقاديًّا في الحالتين؛ لمطلق اللفظ في الحديث. ولكن الجمهور على خلاف هذا.
فلماذا قَبِلنا أن نقلل كلمة "الكفر" في حديث الصلاة من الكفر الاعتقادي إلى الكفر العملي حمايةً للمسلمين الذين لا يُصلُّون, مع أن عدم صلاتهم تعود عليهم وحدهم بالضرر, ورفضنا أن نسمِّي الكفر في حديث "الحاكم" كفرًا عمليًّا؛ بمعنى أنه معصية لا تُخرِج من الملة, مع أن ضرر الحاكم الظالم يعود على الأمة بكاملها وليس عليه هو وحده؟!
إن الأولى هنا أن نقلِّل من كلمة الكفر في حديث الحاكم؛ حتى نتيح الفرصة للخروج عليه إذا كان ناشرًا للمعاصي حتى نحفظ دين الناس, ونحقِّق لهم مقاصد الشريعة.
ومثل ما قلناه في حديث الصلاة نجده في أحاديث كثيرة، قال أغلب العلماء: إن الكفر المقصود فيها ليس هو الكفر المخرج من الملة.
ومثال هذه الأحاديث: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"[9] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn9). وبديهي أنني لو قاتلت جاري أو صاحبي لا أكفر بذلك, فهو كفر دون كفر؛ أي معصية كبيرة.
وكذلك قوله
: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ، فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ"[10] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn10). فهل إذا هرب عبدٌ من مواليه خرج بذلك عن الإسلام، أم أن هذا كفر دون كفر؟
وأيضًا قوله
: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ"[11] (http://www.islamstory.com/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%81%D8%AA%D9%86%D8%A9-2#_ftn11). والحديث في سنن الترمذي, وهو حسن, وقد علَّق عليه الترمذي بقوله: وفُسِّر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: "فقد كفر أو أشرك" على التغليظ؛ أي أن الحالف بغير الله لا يكفر حقيقةً، إنما يأتي منكرًا عظيمًا استحقّ أن يُوصف بالكفر مع أنه ليس كفرًا حقيقيًّا.
وذكر الله في حق آكلي الربا -كما جاء في سورة البقرة- أنهم خالدون في جهنم, فقال: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]. ثم عقَّب على ذلك بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]. والكَفَّار هو شديد الكفر, فهل الذي يتعامل بالربا يكفر أم أن هذا للتغليظ, وهو كفر دون كفر؟!
ومثال ذلك كثير جدًّا, وهو يدفعنا إلى رؤية جديدة للحديث الذي ينهى عن منازعة السلطان؛ حتى لا يعم فساد الحكام, خاصة أن الجميع يعلم أنَّ مَن أَمِنَ العقوبة فسد حاله, فلو ضمن الحاكم الظالم أن أحدًا لن يخلعه لظلمه وفساده لبالَغَ في هذا الظلم والفساد وطغى, ولكان قدوةً لكل الظالمين. أما إذا خلعه شعبه نتيجة هذا الظلم والفساد, فإن هذا يكون رادعًا لغيره, وهذا أيضًا يتناسق مع روح الشريعة التي فرضت الحدود التي تبدو لبعض الناس قاسية, لكنها في حقيقة الأمر رادعة لبقية الناس أن يأتوا نفس المنكر.