المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أربعة أطفال ..من فلسطين



خالد خليل
12-04-2007, 09:00 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

لقد قرأت قصة جميلة في شبكة فلسطين للحوار للأخت خولة عياش, وأعجبتني فأحببت أن أنقلها لكم:



أربعة أطفال ..من فلسطين



هنا فلسطين...
سأعرفكم على أربعة أطفال... يعيش كل منهم بعيدا عن الآخر، لكن يجمعهم وطن واحد، أمل واحد، ومستقبل واحد... تسكنهم أحلام الصغار الوردية، أحلام تنبت على أرض مسلوبة، وترفع رأسها بين الأسلاك الشائكة متحدية الأعداء...
هنا فلسطين..
أطفال لكل منهم قصة تختزل معاناة آلاف آخرين، أطفال رجال، إذ رأوا ولازالوا يرون كل يوم بأعينهم البريئة الجميلة ما تشيب له الولدان...
هنا فلسطين...
لا أذكر أسماءهم وأعمارهم بالتحديد، سأسميهم أحمد، طارق، مريم وإسراء...
أحمـد:
فتى في الحادي عشرة من عمره، أول ما رأيت كان صورة على المنضد خلفه يبتسم فيها في بهاء، جميل هو بتقاسيم حلوة وشعر مصفف بعناية، تبدو علامات النباهة مشعة في بريق عينيه السوداوتين... أطلت النظر إليه، لكنني سرعان ما تنبهت إذ كان أحمد الحقيقي واقفا أمامي.
لم أعرفه، وتمنيت للحظة أني لم أر تلك الصورة أبدا، إذ كان الواقف أمامي ذا بشرة أكلتها النيران، فصارت أشبه بـ...لا أقوى على وصف ذلك المخلوق الصغير الذي كان يحدق إلى الدمعات المتهاوية من عيني في ضيق... بمشقة الأنفس تمالكت نفسي، وسلمت عليه... وبقينا نتحدث، كان أحمد خارجا من المسجد برفقة أبيه وأخيه يومها، صلوا جميعا وذهبوا إلى السيارة قاصدين البيت، صعد أحمد أولا وتخلف أبوه، لم يكد أخوه يدير المحرك حتى كان صاروخ موجه يخترق السيارة... اشتعلت النار في جسم أحمد الغض في حين تناثرت أشلاء أخيه...
أنقذوه بأعجوبة، ساقوه إلى المشفى كتلة متفحمة، لكن الله سلم، وضل قرابة السنتين خاضعا لعلاج خاص، فتخلف صفين عن الدراسة...
رأيته أمام المرآة يصفف شعره الجديد... يتأمل وجهه، تتراءى في عينيه شظايا حلم برؤية أحمد كما عرفه دائما... يدهشني أنا جوابه المفعم صدقا حين يسأل عن حاله:
_ الحمد لله دوما وأبدا، اليهود مش رح ياخدو منا إشي، أنا بدي أدرس وأصير دكتور تجميل مشان أعالج الأطفال يلي تصاوبوا...
وأسأل نفسي، كيف يعيش هذا الفتى بمعنويات عالية، بروح أبية، وسط نظرات الشفقة التي قد يلاقيها؟
ابتسمت وقلت... هنا فلسطيني!
طارق:
اثنا عشر ربيعا مرت على هذا الصلد، غلام فصيح إذا تكلم، رابط الجأش، جهوري الصوت... يتحدث كالمناضلين الكبار، كنت على وشك أن أقاطع كلامه مرددة أحد شعارت المقاومة...
كان يمشي مستعينا بعكازة أسر إلي أنه سيتخلص منها في أقرب فرصة، ضحكت من قولته وتابعنا المسير باتجاه مكان الحادث... أو بالأحرى باتجاه مسرح الجريمة...
وعندما وصلنا إلى النصب الذي يؤرخ للمجزرة التي ارتكبت في حق مخلوقات طاهرة... وقف وقفة شامخة، حنا رأسه برهة ثم قال:
_ كنا قادمين من ناصية الشارع هناك، في مسيرة أطفال، كان معي محمد وإياد وعلي و... وفجأة سمعنا صوت الطيارة... ركضنا محاولين الابتعاد، لكن الصاروخين كانا أسرع منا...
سقط الصاروخ الأول هنا، والثاني هناك... واستشهد فلان وفلان وفلان ... أما أنا فقد أصبت في ساقي ولم يستطع أحد حينها إسعافي إذ كان الطيران مستمرا...
ويتم عباراته تلك في وصف دقيق لما جرى وكأنه يحدث الآن، يستعرض تلك المشاهد وأنا أتلقاها خناجر غدر تطعنني في عجز كامل ...بصعوبة أخرجته من عمق ذكرياته لأسأله:
_ كم كانت الخسائر؟
اعترض على سؤالي مستنكرا:
_ نحن لم نخسر شيئا، اليهود بفكرو انو خسرنا بس نحنا مخسرناش إشي... أحبابي أرواحهم طلعت لفوق ..لعند ربهم... يلي استشهدوا مش خسارة ... إحنا ربحنا شهداء أكثر، ولو فلسطين بدها كمان... بنعطيها...
ورفع عينه إلى السماء...
لم أتمالك دموعي مرة أخرى... كيف يقف هذا الرجل الصغير بهذا الشموخ متحديا طائرات الأباتشي، متحدثا كأبلغ ما يكون عن الشهادة...
كفكفت دمعي واختلست ابتسامة وقلت.... هنا فلسطين!

مريم:
فتاة جميلة تشق طريقها إلى بيتهم في ضواحي مدينة الخليل، البيت الذي تدفع ثمنا لبقائها فيه مضايقات يومية من المستوطنين الذين تحيط مساكنهم بالمكان قد تصل إلى الضرب ومحاولات الاعتداء أو أي جديد قد يتبثق عن حقد يهودي توراتي دفين...
الوالد توفي منذ زمن، والأم تقوم على رعاية أبنائها وفق ما تجود به قطعة الأرض، أعطوها الملايين مقابل أن تبيع أرضها، ليس الملايين فقط، بل والجنسية التي تختار والسكن الذي تفضل ... لكن عبثا، فهي وأبناؤها متجذرون في هذه الأرض، جذورهم أعمق من جذور هذه الزيتونات، تقول مريم:
_ نحن هنا منذ الأزل، هادي أرض جدي ورثها عن أجداده.. ونحن لن نرحل.
مريم تجاوزت الرابعة عشر بقليل، تضطر يوميا في طريقها إلى مدرستها للمرور عبر نقط تفتيش ينصبها الجيش بحجة حماية أمن المستوطنين، قد تجد معهم كلابا، لكنها تقول أنه لا فرق، فقد تكون كلاب البوليس أرحم من تلك الكلاب البشرية، أقل ما يحدث معها أن تشتم أو تقذف بالحصى...فتعتبر نفسها محظوظة إن وقف الأمر عند هذا الحد...
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحكي عن شخص لا تعرفه:
_ كنت عائدة إلى البيت مساء، وعندما وصلت إلى هذا المكان بالتحديد، وجدت تجمعا من المستوطنين، وقفت بعيدا لأتحاشى ملاقاتهم، لكنهم لما رأوني بدؤوا بمطاردتي... حاول أحدهم ضربي... لكن شابا وسيما منعه...
غلبتها العبرات، شهقت شهقة ألم فطرت قلبي، ثم تابعت في صوت متقطع:
_ اشتبك معهم، تريدين أن تعرفي ماذا حصل؟ ببساطة أطلقوا عليه النار وأخذوه...
تحاول أن تتماسك مضيفة:
_ وشو ذنبو هو؟ بركي بكون عندو أهل بستنوه؟ بركي بكونو عندو أولاد؟ إيش ذنبو ينطخ بسببي؟ أنا يلي كان لازم موت... ياريتهم طخوني مكانو...
أمسح عن عينيها بعض الدموع، قدر الله يا حبيبتي... ألحظ في عينيها عبارات أقوى مما كنت أحسب، فهاهي تلقي على أذني بما لم أتوقع في ذاك الموقف:
_ اليهود يريدون أن يتحكموا في حياتنا، لن أسمح لهم، سأكون أقوى مما يحسبون... لن أتركهم يتحكمون في حياتي ولو دفعتها ثمنا لذلك...
لم أملك نفسي، بمعنويات عالية كنت أردد لاشك.... هنا فلسطين!

إسراء:
تخطو إلى المطبخ لتعد طعام الغذاء لإخوتها الثلاثة الأصغر سنا، عمرها ثلاثة عشر سنة، ترفل في لباسها الطويل وحجابها الجميل كامرأة صغيرة... تحملت أعباء بيت بأكمله، في وقت تلعب فيه قريناتها بعرائسهن...
قوية هي، صلبة مفعمة بروح التحدي والمقاومة، تبتسم في أدب وحياء، تقدم الشاي لضيوفها في فخر تقول:
_ أبي وأمي أسيران لدى الاحتلال... اعتقدنا في بداية الأمر أن المسألة لن تطول طالما لم توجه لهما تهمة، لكن مرت الشهور تليها الشهور...دونما تطور يذكر...
شهور أخذت إسراء على عاتقها خلالها مهمة حماية بيت والديها ورعايته حتى يعودا... دون أن تترك دراستها...
_ أريد أن أصبح محامية، أدافع عن القضايا العادلة، وأفهم القانون جيدا...
تستيقظ باكرا، تعد الفطور، تطعم الصغار وتعد ثيابهم قبل أن تسوقهم إلى مدارسهم في طريقها...
وتعود إلى البيت مساء معهم، ليبدأ مسلسل من المتطلبات والواجبات.
تخوض هذا الغمار بلا تأفف، تعتز بكونها ابنة الأسيرين، فاليهود أخذوهما لأنهما مجاهدان... وهذا يعد لديها قمة الفخر والعزة..
تسألها أولست تفتقدين اللعب مع الصويحبات كما اعتدت من قبل فتجيب وقد ترقرق دمع عصي في مقلتيها الساحرتين:
_ قدر الله وما شاء فعل، أنا ابنة أسيرين، وابنة أرض أسيرة، لسنا نملك أن نفعل ما نشاء... لكننا لن نركع لبني صهيون... الحرية هنا في قلوبنا...فلينتزعوها منا إن استطاعوا...
تنهمر دموعها كالبلور الصافي...
أنظر إلى العزم المتوقد...إلى بركان الثورة الذي يسري في دماء هذه الصبية الأبية...
لملمت أوراقي....
فتحت آخر صفحة في مذكرتي، وكتبت...
هنا فلسطين... وفقط في فلسطين



نقلته عن خولة عياش




أبريل 2007



منقول من شبكة فلسطين للحوار



http://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=124191&goto=newpost (http://www.paldf.net/forum/showthread.php?t=124191&goto=newpost)