و يبقى أمر جدير بالذكر قبل طي صفحة الحملة الفرنسية و جهاد البحيرة ضدها إلا و هو عزة النفس التي تحلى بها أهل البحيرة في تصيدهم قادة جيش نابليون بين الرحمانية والإسكندرية عبر البحيرة حيث تمكن المجاهدون في احدى القرى من أسر أحد قيادات الحملة و كان برتبة كولونيل و حاول نابليون افتدائه بمبلغ كبير جدا من المال الا ان مجاهدو البحيرة رفضوا الاغراء و قتلوا السفاح انتقاما للشرف و شهد بذلك المؤرخ الفرنسي (ادوار جوان) (انظر اقليم البحيرة ص396)
مقارنة بين جهاد دمنهور و ثورتي القاهرة ضد الفرنسيين :
قبل أن نطوي صفحة جهاد دمنهور ضد الحملة الفرنسية نريد أن نقارن بين جهاد دمنهور الباسلة و ثورات القاهرة ضد الفرنسيين و ليست المقارنة للتفاخر او لمجرد القارنة النظرية و لكن هدف المقارنة هو التذكير بأن المؤرخين العرب و المصريين خصوصا قد أهملوا كثيرا في حق شعوبهم بتجاهل دورهم الجهادي و ترك الميدان للمستشرقين و الأعداء لكتابة تاريخنا كما لم يكتفي المثقففون بذلك بل وجهوا طاقتهم وجهدهم لدراسة تاريخ اوربا و مذاهب الاوربيين الفكرية و الاقتصادية و الاجتماعية و كأن هؤلاء المثقفون لم يكونوا ابناء حضارة أو أنهم لقطاء لا أصل لهم و عندما درس البعض تاريخنا اكتفى بذكر تاريخ العاصمة و دون تاريخها كما تدون نشرة الأخبار و من هذا المنطلق نوضح في تلك المقارنة بعض النقاط المنسية
- انطلق ابناء البحيرة للجهاد في سبيل الله من قبل أن تطا اقدام الفرنسيين الاسكندرية و كان لهم دور في الدفاع عن الاسكندرية خلف السيد محمد كريم بينما انتظر أهل القاهرة حتى تصل الحملة اليهم
- اتسم جهاد البحيرة و دمنهور بالايجابية منذ اللحظة الاولى لدخول الحملة بينما اتسمت حركة القاهريين في بادئ الأمر بالإتكالية و الدروشة الاكتفاء بقراءة البخاري في الشوارع و في صحن الازهر و الهتاف يا خفي الالطاف نجنا ممانخاف و القليل منهم ساعد المماليك في الدفاع عن المدينة و الباقي يشارك بالصراخ و في هذا الشأن يقول الجبرتي و كأن هؤلاء العامة يجاهدون بصراخهم
- روى الجبرتي عن سكان القاهرة حالة من الفوضى العامة عند دخول الفرنسيين و حالة من الهجرة الجماعية و السلب و النهب حيث سقوط سلطة الدولة بينما كانت دمنهور تقف لقوات الجنرال ديموي بالمرصاد حتى اضطر لتغيير طريقه و الابتعاد عن دمنهور الا ان مجاهدو دمنهور طاردوه حتى رجع الى الاسكندرية و قد خسر ثلاثين من رجاله و اثخنت قواته بالجراح
- لم ينخدع أهالي دمنهور بالبيانات البراقة التي القاها عليهم نابليون من انه يحب الاسلام و انه جاء ليحررهم و ما الى ذلك من اكاذيب بينما انخدع بذلك اهل القاهرة و زين المشايخ للناس ذلك و اشتركوا في الدواوين التي انشأها نابليون معترفين بذلك بشرعية الاحتلال الفرنسي.
- اتسم جهاد اهل البحيرة و الاسكندرية بالنظام و التحرك الجماعي و السرية و حسن التنظيم و اكبر دليل على ذلك اتفاق المجاهدين من دمنهور و الاسكندرية على حصار جيش الحملة في يوم 23يوليو1798و بالفعل تم الامر بشكل مفاجيء ومباغت للفرنسيين كماكان جهاد البحيرة يتم خلف قيادات و تنظيم و اكبر مثال على ذلك توحد أهل البحيرة خلف الشيخ المغربي الا ان هذا الامر لم يكن موجود في ثورة القاهرة و بالذات الثورة الاولى حيث تحدث عنها الجبرتي باعتبارها فتنة و اتسمت بالكثير من الفوضى و اختلط فيه الثوار باللصوص و كان الامر هياج عشوائي
- الشرارة الاولى في ثورة القاهرة الاولى كانت بسبب فرض الضرائب لصالح الحملة بينما جهاد البحيرة لم تدخل فيه الاسباب الاقتصادية مطلقا بل كان لأسباب عقائدية بحتة و الدليل على ذلك أن أهالي البحيرة كانوا يحرقون مزروعاتهم حتى لا تكون مددا للفرنسيين كما انهم رفضوا فداء الاسرى الفرنسيين بالمال
- ثورة القاهرة الاولى اتسمت ببعض الاعمال العدائية ضد الاقليات من مسيحيين أقباط و شوام و يهود بل و ضد المسلمين الذين يسكنون في جوار الاقباط مما حقق هدف نابليون في زرع بذور الفتنة و الإيحاء للاقليات بأنه هو حاميهم الوحيد و بالفعل بعد انتهاء الثورة نكل بالثوار تحت اسم القصاص من الجناة و المخربيين الذين نهبوا بيوت الاقباط و الشوام و اليهود مما كان له اثر سيء فيما بعد .
قصة الالفي مع دمنهور
جاء يوم 12 فبراير سنة 1804 و رست على ابو قير السفينة الانجليزية (اراجو)و هي تقل الالفي بك و هو محمل بالهدايا و الستة عشر مملوكا من حاشيته الخاصة عائدا من عند اسياده الانجليز بعد ان اتفق معهم على تسليم مصر لهم و لهذا قدم لعمل الترتيبات الازمة ، عاد الالفي من لندن و هو ممتلئ بالأمل الكبير بالاستيلاء على مصر و لم يكن في حسبانه ان يعود ليجد المماليك قد انفضوا من حوله و انضموا بزعامة البرديسي (عميل فرنسا)الى محمد علي و لكن هكذا تغيرت الظروف حتى اصدر البرديسي امرا – بعد ان استشار محمد علي – امرا بقتل الالفي اينما وجد ، و لكنه فر من ايدي الباحثين عنه و اختفى الى حين .
و لكن الألفي قد بات على أحر من الجمر لان الإنجليز لم يحضروا إلى مصر حسب الوعد و أخشى ما كان يخشاه أن يحضروا فيجدونه مهيض الجناح فيتشككوا في زعامته للمماليك على النحو الذي رأوه عليه منذ ر – رحل معهم في الجلاء –إلى بلادهم و لكن هكذا انشق المماليك على أنفسهم فليعتمد هو على نفسه و ليجمع حوله حاشيته و العرب الذين صاهرهم و ليستخدم قوة شخصيته و جبروته حتى لا تزعزع هذه الاحداث الجارية ثقة الانجليز به اذن فليسرع فالزمن ينقضي وآن أوان لحضور الاعوان فليسبق هو الى دمنهور .
و على أسوار دمنهور تحطمت أحلام الألفي
اين الوعود يا انجلترا ؟؟
هكذا كان الألفي يهمس لنفسه كلما انقضى يوم و لم يأته من الانجليز خبر. فليستعد اذن ، و لكن اين يكون اللقاء ؟؟
في دمنهور لأن موقعها يتوسط بين القاهرة و الاسكندرية جهةً و يستطيع بذلك أن يستولي على الرحمانية و عند دمنهور يستطيع أن يخف سريعا للقاء اصدقائه الانجليز القادمين من السواحل كما انه لا يملك قوة بحرية تمكنه من الاستيلاء على الثغور.
الألفي و الحصار الأول لدمنهور:حاصر الالفي بعساكره مدينة دمنهور يوم 10 يوليو1805 و لكن الارناؤوط قاوموه و تحصنوا في داخلها و رابطوا خلف الابراج المقامة فوق مرتفعها المنيع و ضرب عليها الحصار و استمر عدة أيام تبودلت خلالها القذائف و في يوم 26 يوليو علقت سبعة رؤوس بالقاهرة امام باب زويلة بأمر الأغا (المحافظ)لإيهام المصريين أنها لمماليك الألفي الذين قتلوا في دمنهور .و ارسل محمد علي-صاحب الكلمة في الارناؤوط والمماليك حيث لم يكن تولى ولاية مصر بعد-بعض القوات لتحصين الرحمانية استعدادا لقتال الالفي و تحركت قوات محمد علي هذه من الرحمانية و سمع بذلك الالفي فاضطر الى رفع الحصار عن دمنهور و اخذ سبيله الى (الطرانة).
الحصار الثاني لدمنهور على يد الالفي:
وصل الالفي الى دمنهور يوم 29 ابريل سنة 1806 و ضرب عليها الحصار و كان السيد عمر مكرم-زعيم الشعب و نقيب الاشراف-قد بث روح البسالة والتضحية في قلوب أهلها و امدهم بكل ما يحتاجون من امدادات فحصنوا المدينة و أقاموا حولها سورا منيعا و شيدوا عليه الابراج و ركبوا المدافع العديدة و حفروا الخنادق حولها و استحوذوا على البارود و الذخيرة و المؤونة سنة كاملة إذا ضرب عليهم الحصار .
الا انه في تلك الفترة(منتصف يونيه من نفس العام) كان قد اتى للالفي نبأ سعيد الا و هو نبأ العفو السلطاني عنه بشفاعة الانجليز ، و اشتد ساعد الالفي بعفو السلطان و عون الانجليز المنتظر ان آجلاأو عاجلا ، و أذاع منشور في دمنهور جاء فيه
[أرسل الباب العالي فرمانا بتقليدي ولاية مصر و سأتوجه الى القاهرة متى تسلمته لتنفيذ ما فيه فعليكم أن تفتحو ابواب مدينتكم لتبرهنوا على اخلاصكم و طاعتكم لي] لم يعبأ أهل دمنهوربما أذاعه فيهم الالفي بل أرسلوا المنشور الى محمد علي-الذي فرضه الشعب المصري حينئذ على الدولة العثمانية-فكتب اليهم منددا بخيانة الالفي و عبر عن ثقته في ولاء اهل دمنهور له و اسرع الالفي برفع الحصار عن دمنهور الصامدة استعدادا لمواجهة جيش الارناؤوط الذي ارسله محمد علي بالقرب من النجيلة و خسر جيش محمد علي المعركة و اشتد فيهم القتل حتى صارت طراطير الارناؤوط تطفوا على سطح النيل بعد أن القوا بأنفسهم إلى الماء يريدون النجاة و تخففوا من الطراطير حتى لا تغرقهم في اليم (و سميت بمعركة الطراطير)، و غنم الالفي منهم خياما وخيولا و ذخائر لا تعد ولا تحصى -استخدمت بعد ذلك في حصار دمنهور و تضييق الخناق عليها (و هكذا تحولت اسلحة محمد علي الذي تدافع عنه دمنهور الى يد العدو) -و ارسل برؤوس القتلى وعددهم ستمائة الى قبودان باشا (موفد السلطان العثماني) بالاسكندرية ، ويبدوا انه كان يريد ان تصل رسالة للدولة العثمانية مفادها انه-أي الالفي-هو الطرف الاقوى في الصراع على السلطة في مصر مما قد يشجع السلطان على تقليده الولاية و الرهان عليه، حيث كان من المعروف ان السلطان العثماني قد ولى محمد علي باشا ولاية مصر و هو مضطر تحت ضغط الارادة الشعبية المصرية و التي ظهرت للوجود لاول مرة بعد خمول طويل و ذلك بعد احساس المصريين بقدراتهم المؤثرة في احداث الجهاد ضد الحملة الفرنسية الغاشمة حيث تمكنوا من ايذاء الحملة و جهادها جهادا عظيما و ذلك بعد هزيمة المماليك العسكريين النشأة و المجلوبين من اراضٍ بعيدة لذلك الغرض (غرض القتال و الدفاع عن البلاد)و كانوا يستمدون شرعية وجودهم و جبايتهم للضرائب نظير تفرغهم لذلك الامر ، و كذلك في ظل شلل الدولة العثمانية التي كانت تحكم ما يقرب من نصف العالم المسكون آنذاك بل وهزيمتها امام الفرنسيين هزيمة منكرة في قلعة ابي قير التي دخلوها بمساعدة الانجليز، و ايضا في ظل عجز الانجليز (اصحاب اقوى اسطول في العالم انذاك و اغنى دولة في العالم حيث احتلالها لمعظم مناجم الذهب الخام والمعادن النفيسة في القارة البكر) من طرد الفرنسيين من مصر رغم طمعهم في ذلك لاغراضهم السياسية الخاصة( تامين طريق الهند) الا انهم اكتفوا بالاغارة على السواحل المصرية لكسر قوة الفرنسيين البحرية دون محاولة مهاجمتهم داخل البلاد المصرية.
و في ظل تلك الظروف وقف الشعب المصري وحده لا يستعين الا بربه- الله الواحد القهار مالك الملك ناصر المتقين و مخزي الكافرين- مدافعا عن ارضه و هويته و اسلامه الذي حاول عدوه النيل منه باعتباره زاد المقاومة الوحيد بعد انقطاع كل مدد اخر(المماليك و مدد العثمانيين و مدد اعداء الفرنسيين (الانجليز))
هذه كانت خلفية ضرورية لفهم الاحداث في ذلك الوقت و الان نعود لرواية الاحداث مرة اخرى.
و انخلع قلب محمد علي و لكنه صب جام غضبه على طاهر باشا الهارب من معركة النجيلة و امره بالمضي الى رشيد فاسرع الى فوة و استولى على الرحمانية من المماليك انتظارا لتعليمات اخرى و لما وصل الالفي بك الى الرحمانية امر محمد علي قائده طاهر باشا بالتوجه فورا لطرده من الرحمانية فاستقل المراكب و لكن مدافع الالفي فتحت افواهها عليها فغرقت و احترقت و ظل يطارده برا .
حصار الالفي لدمنهور للمرة الثالثة :
و عاد الالفي من النجيلة الى دمنهور و كان اعيانها قد ذهبوا الى قبودان باشا (موفد السلطان العثماني والذي كان قد تلقى رشوة كبيرة من الالفي نظير تسهيل اغراضه) في الاسكندرية فطمأنهم و لكن ظنونهم فيه لم تصدق فارتابوا كل الريب خصوصا انه قد طلب منهم ان يذعنوا بالطاعة و يضمن لهم عدم عدوان الالفي عليهم و لكنه ابو عليه ذلك لأن مستشارهم الامين (عمر مكرم)شجعهم على المقاومة حتى النهاية .
وصل الالفي الى دمنهور وضرب عليها الحصار ثالثة و قدم اليه من الجيزة ستة من امراء المماليك لشد ازره و طال الحصار على دمنهور الابية و القذائف تتوالى من الجانبين و استشهد كاشف (مسؤول)دمنهور و اهل دمنهور مع ذلك في شجاعة نادرة يمانعون الالفي و لا يعبأون حتى بعد ان قطع ترعة الاسكندرية و حرمها هي و البحيرة من الماء وهم صامدون .
لقد فعل الالفي (العميل الخائن) و رجاله بأهل دمنهور ما لم يطرق ببال احد من الوان التعذيب الوحشي فقد كان الطغاة يعلقون اسرى دمنهور الباسلة في أغصان الاشجار بقطع حادة من الحديد يغرزونها من تحت أذقانهم و أخذ أهل دمنهور على أنفسهم المواثيق و العهود بالإستشهاد في سبيل الله و الدفاع عن مدينتهم .
و هجم الالفي بمماليكه على دمنهور خمسة أيام فصدتهم اسوارها مدحورين و تعاقد اهل دمنهور فيما بينهم على انهم اذا جاء الليل كبروا تكبيرة رجل واحد فيقذف الله الرعب في قلوب المعتدين ثم يتلفون أمتعتهم و يطلقون عليهم النيران من فوق الابراج ثم يعودون على أضواء المشاعل يتغنون بالنصر و الاسرى مسحوبون على وجوههم كالاغنام و تم لهم ما ارادوا الا انهم لم يستطيعوا فك الحصار نهائيا عن المدينة.
و جرد محمد علي حملة على رأسها ببر باشا الخازندار و عثمان أغا فوصلت مراكبهم الى الرحمانية و كان للالفي هناك حامية في معسكرها على ترعة الاسكندرية فأجلتها قوات محمد علي و طردتها ثم اتبع رجال محمد علي فكرة جهنمية و هي فتح الترعة فجرى الماء فيها و سيروا عليه مراكبهم و لكن الالفي اسرع و سدها عليهم بمسافة غير بعيدة .
و جاء شاهين باشا و ساعد الالفي على سد فم الترعة بالقطن و فتحه من أسفل فتدفق ماؤها في السبخات المجاورة و نضب ماء الترعة تدريجيا فتعطلت المراكب و خف رجال الالفي الى المراكب فقتلوا من كان بها أو هرب منها عند منية القران و منهم من فر الى سنهور و تحصن بها و لكن رجال الالفي التقت بالهاربين وامعنت فيهم قتلا و استمر القتال بينهما وطال و كذلك انهزم جيش محمد علي مرة اخرى من رجال الالفي .
و انتصف شهر ديسمبر و الالفي مصمم على حصار دمنهور و اهلها صابرون صامدون لم ينجدهم محمد علي بأي شئ قل او كثر فانه كان مشغولا بتكليف عمر مكرم بجمع السلفيات لإنقاذه من الازمة المالية التي يعانيها و من المأزق الحرج الذي حصر فيه بين الاتراك و الالفية و الفلاحين .
و قرر أهل دمنهور الاعتماد على انفسهم مستعينين بربهم لينصرهم على الخائن عميل الانجليز و المماليك المرفوضين من الشعب و المتحالف مع الاعراب (الهنادي و اولاد علي)و المسنود من قبل قبودان باشا ممثل السلطان العثماني و لكن اهل دمنهور لم ييأسوا من نصر ربهم و ابدوا من البطولة ما سجله لهم التاريخ -للاسف- على لسان الاعداء حيث ضعفت ذاكرة الاصدقاء- و و قف المجاهدون رجالا و نساءا و شيوخا واطفالا و قفة رجل واحد فلم ينل منهم الالفي اى منال .
و في خضم هذه الاحداث جاء فرمان السلطان باستمرار محمد علي واليا على مصر كلها فيما عدا الثغور ( رشيد ودمياط و الاسكندرية ) التي ظلت تابعة للباب العالي ، و جمع محمد علي الديوان و قرأ عليهم الفرمان ..
عندئذ ادرك الالفي ان احلامه قد تحطمت على اسوار دمنهور فقد كان يأمل ان يتملكها ليتخذ منها معقلا يقيم بها حتى يبر الانجليز بوعدهم له و لكن المقاومة الباسلة التي تذرع بها اهل دمنهور قد افسدت عليه خطته .
لهذا لم ير بدا من الارتداد عن دمنهور مخذولا و معه اولاد على و الهنادي و غيرهم من عربان الشرقية فقد كان له عليهم سيطرة ونفوذ لكثرة نسائه من قبائلهم ، و لاذ بالفرار الى الصعيد فمات به مغموما مهموما في 28 يناير سنة 1807 حتى حكى عنه من كان حوله في البحيرة بعد الخذلان انه فكر في الانتحار بعد ان ضاقت الدنيا في وجهه بسبب جهاد دمنهور و صمودها و انفض المماليك من حوله و لم ينجزه الانجليز ما وعدوه به .
و سجل التاريخ في صفحات من نور لأهل دمنهور أمجادا خالدة في موقفين : أحدهما مع نابليون و الاخر مع الالفي
لهذا قال [مانجان] Histtore de l,Egypt sous L gouvernment de Mohammed Ali T:1
[ إن دفاع دمنهور المجيد هو جدير بان يسجل في صفحات تاريخ مصر الحربي فقد تولى أهلها الشجعان هذا الدفاع وحدهم دون أن يتلقوا أى مدد أو مساعدة حتى من محمد علي الذي كان هذا الدفاع دفاعا عنه فقاوم أولئك الشجعان بكل ثبات و بسالة قوات الالفي كلها الى ان تكلل دفاعهم بالنجاح ، فكان له تأثير كبير في احباط خطة الباب العالي] و نسي [مانجان] ان يقول احباط خطة الانجليز ايضا بالاضافة لخطة الباب العالي.
و قال (جومار) ايضا [ إن أهالي دمنهور قد أظهروا مثل هذه الشجاعة و المصابرة أثناء الحملة الفرنسية في ظروف تختلف عن الظروف التي قاوموا فيها قوات الالفي مما يدل على ما فطروا عليه من الشجاعة ].
و انتصرت دمنهور و مات الالفي و لكن الانجليز في طريقهم الى مصر بعد ان فاتهم القطار فلتسترح دمنهور قريرة العين و لتحمل راية الكفاح بعدها رشيد الباسلة و اذا كانت دمنهور قد سحقت الالفي فان رشيد ستسحق فريزر فان لها هي الاخرى موعد مع القدر بعد اقل من ثلاث شهور ايضا على ارض الكفاح و مقبرة الغزاة و الدخلاء و القراصنة و الافاقين أرض البحيرة .
إشارة الى جهاد شمال البحيرة ضد حملة فريزر :
و نشهد للحق و التاريخ ان رشيد وادكو و الحماد قد ابلوا بلاء حسنا ضد حملة فريزر استمر شهورا و ما القصة المشهورة بان اهل رشيد قد قاتلوا الحملة بعد توسطها المدينة من داخل البيوت بعد سماعهم صيحة التكبير المتفق عليها ما هذه القصة الا فصل واحد من كفاح المجاهدين الابطال الذين طردوا الحملة الانجليزية وحدهم نعم للحق و التاريخ طردوها وحدهم دون تدخل عسكري تركي واحد اما المماليك فقد كان بعضهم موالين للانجليز والبعض الاخر خائف من مساندة الانجليز بعد مصير الالفي في دمنهور ، ويكفي أن نعلم أن المجاهدين في قرية الحماد قد أفنوا احدى كتائب حملة فريزر حيث كانت خسائرها32 ضابط و 730 ما بين قتيل و جريح و مئات الاسرى الذين هلك معظمهم في الطريق الى القاهرة و من عاش منهم بيع كرقيق للمصريين و تفاصيل كفاح اهل رشيد وادكو و قرية الحماد في كتاب( اقليم البحيرة صفحات مجيدة من الحضارة والتاريخ والكفاح ص418الى440) و نسب الفضل في هذه المعارك الى محمد علي وعساكره الذين لم يدخلوا معركة واحدة مع حملة فريزر بل بالعكس كانوا يخذَّلون المجاهد عمر مكرم و رجاله ويمنعونهم من جمع التبرعات و ارسال المجاهدين و كانوا يمنعونهم من الخروج من القاهرة الى الجهاد في البحيرة و كانوا يشترطون اذن رسمي للخروج و كانوا يصادرون الأموال المتجهه لمساندة المجاهدين البحيرة لما بدا يظهر في الافق من سطوع نجم الجهاد الشعبي و قيادة الحركة الشعبية المتمثلة في شخص المجاهد عمر مكرم و رغم ان الرجل المجاهد كان متجردا و لا يطمع في حكم البلاد بل على العكس هو الذي ارغم السلطان العثماني على تولية محمد علي وجمع التأييد الشعبي له و حث اهل دمنهور على الجهاد ضد الالفي دفاعا عن محمد علي امل مصر حينذاك في ان تحكم بالعدل وفق كتاب الله و سنة نبيه الا أن الطغاة دائما لا يحبون ان يظهر في الصورة غيرهم و لو كان متجردا ،لا يرغبون ان يكون بجانبهم تقاة حتى لا يتضح ظلمهم ،لا يحبون ان يكون معهم في الصورة اقوياء اذكياء و لو كانوا في خدمتهم ، لذلك يعلن الطغاة دائما الحرب على كل فضيلة توضح رذيلتهم ،و على كل نباهة توضح حمقهم ،و على كل قوة توضح ضعفهم ،و على كل جهاد يفضح تخاذلهم ،يحسبون كل صيحة عليهم ، هم العدو فلنحذر منهم جميعا ان شاء الله .
من يجني ثمار النصر
ذاع في البلاد خبر الانتصار انتصار الشعب المصري وحده –بمعونة و نصر الله الواحد القهار-على الانجليز و اسرع الجنود العثمانييون يطرقون الابواب على أعيان البلاد يطلبون البقشيش بكل وقاحة و بلا حياء ، و استباح بعضهم بيوت الحماد الباسلة المطفرة و نهبوا اموالها و مواشيها و فضحوا نساءها.
و كتب حسن كريت يشكوا الى المفتي و لا سميع و لا مجيب و أحاط الارناؤوط –و هم جنود محمد علي – برشيد يبتزون كل ما وجدوه فوقف لهم حسن كريت بكل ما أوتي من شجاعة ففضحهم على الملاء حتى هاجروا الى القاهرة بعد ما ابدوا في الميدان من بسالة و تضحيات !!!!!!!!! اقصد سلب و نهب [و ليت العامة شكروا على ذلك او نسب اليهم فعل بل نسب كل هذا للباشا و عساكره و جوزيت العامة بضد الجزاء بعد ذلك] هكذا قال الجبرتي.
و من العجيب أن السلطان كتب يهنئ الباشا وعساكره و يشكرهم على النصر وقدم من الشام 500 من الارناؤط لتعزيز القوة الغاشمة و ارهاب هذا الشعب الذي بدأ يثق بنفسه و بنصر ربه الذي رآه دون أن يسمعه.
و شهد (دوران فييل)ان نائب محمد علي (طبوز اوغلي) قد تردد في الالتحام مع الانجليز في الميدان فترك حسن باشا يخوض المعركة وحده و عاد هو من حيث جاء و القى مراسيه على بعد ميل من الحماد .
فعلام هذا الشكر السلطاني للوالي الذي وقف في وجه الشعب يحول بينه وبين شرف الجهاد في سبيل الله ؟؟‍‍‍‍‍! و علام هذا الشكر للعساكر الذين فروا من الميدان حتى اذا انتهت المعركة استباحوا الحرمات ؟ اما ابطال النضال فما كان جزاؤهم الا كما يجزي سنمار ، و بعد شهور معدودة يكون زعماء الجهاد والتحرير الحقيقيين في ما بين النفي و السجن ، اما ان جزاء المؤمن في الجنة و جنة الظالم على الارض.
أما الانجليز فقد لعقوا جراحهم بكل برود و اعادوا تنظيم صفوفهم و استطاع القائد (هالويل) ان يبسط نفوذه على البحر باسطوله الذي اخذ بتعزيزه يوما بعد يوم .
و قد سجل يوما 10و16مايو محاولتين قاما بهم القوات البحرية التابعة لاسطول محمد علي و ذلك بالتحرك من ادكو الى ابو قير فتصدت لها مدافع السفن الانجليزية حتى استطاع القبطان هارفي قائد السفينة (استاندرد)تدمير ثلاث سفن من اسطول محمد علي .
و اراد محمد علي الا يخرج من المولد بلا حمص- كما هو في التعبير المصري الدارج-و الا فقد كل رصيده في مصر فأعد جيشا من اربعة الاف ما بين فارس و راجل وجعل القيادة العليا له هو و سار نحو الاسكندرية فلما وصل دمنهور علم ان الانجليز قد جاءتهم نجدة من ثلاث الاف مقاتل و على الرغم من ذلك دب الذعر في قلوب الانجليز و باتوا يتلهفون على الصلح مع محمد علي و قد هالهم ان جيش جديد
لم يشترك بعد في المعركة سيضيف لانتصارات مجاهدي البحيرة الكثير خاصة وان عدد اسراهم قد وصل الى خمسمائة اسير و بدات المفاوضات فعلامنذ 16 مايو و وقعوا مع محمد علي اتفاقية الجلاء يوم 14 سبتمبر في معسكر محمد علي قريبا من دمنهور و رد اليهم الاسرى و تبودلت الهدايا و التعهدات بين الطرفين و دخلت الاسكندرية منذ هذه اللحظة في ممتلكات محمد علي و رجع محمد علي الى دمنهور و صادر املاك كاشف البحيرة و هو في طريقه .
هكذا جنى محمد علي ثمار المعركة و بات المصرييون يصطلون ثمار الشوك و القتاد فلما عاد الى القاهرة و استقر بالقلعة اقام وليمة كبرى لكبار رجال الدولة و دعا اليها السيد حسن كريت بطل معارك رشيد و الحماد و رحب به اشد الترحيب و بعد ان تناول المدعوون ما لذ و طاب خرج حسن كريت محمولا على الاعناق و شيعت جنازته بصفة رسمية و ورى جثمانه الطاهر قبرا غير معروف الى يومنا هذا ندعوا الله له ان يتقبله في الشهداء و ان نلتقي به في جنة الخلد.
فضائح محمد علي في البحيرة :
لم يحفظ محمد علي الجميل لمدينة رشيد الباسلة و لا غيرها ممن كان له جميل على محمد علي او حظي بشرف الجهاد ضد اعدء مصر قلعة العروبة والاسلام .
و قلب محمد علي لأهل البحيرة ظهر المجن و شرع يضطهدهم أشد الاضطهاد و يستبيح حرماتهم هو و عساكره الارناؤوط المسعورون ففي يوم 21 اغسطس توجه بنفسه الى البحيرة ولاسكندرية فنزل الى الرحمانية و استدعى شيخ دسوق فادرك الشيخ ما وراء الاستدعاء من عسف و خسف ففر الرجل و آثر الفرار على مقابلة الباشا الظالم الغاشم فاتخذ من ذلك ذريعة لاطلاق عساكره على دسوق ينهبونها و يضربون طلبة المعهد الديني بدسوق .
و حظيت البحيرة باهتمام الباشا و لكنه اهتمام من نوع خاص فهي أرض الثورات ومنبع الخيرات و على ساحلها الشمالي ثلاثة من ثغور مصر رشيد و ابوقير و الاسكندرية ،لهذا كله جعل كشوفيتها و التزاماتها لاقرب المقربين اليه من أصهاره اولئك الذئاب المسعورة التي لا تكف عن سعارها فالغاية تبرر كل وسيلة في سياسة محمد علي .
و اقليم البحيرة قد عاد اليه الخراب بعد كسر سد ابو قير و طالبت حكومة الباشا الملتزمين في البحيرة بالخراج فاحتجوا بالخراب الذي عم البلاد و تلك هي الفرصة التي سنحت للباشا فقد استولى على اراضي البحيرة و وزعها على اتباعه والاضيشه فلما الت الى هؤلاء أسرعوا الى دعوة اهل البلاد الفارين منها الى العودة اليها .
و بامر الباشا قبض كاشف البحيرة على السيد حسين نقيب الاشراف بدمنهور (19نوفمبر1808)و بالغ في اهانته و صادر ممتلكاته و فرض عليه غرامة باهظة من المال قدرها الفا ريال و بعد اقل من شهرين نال عبد المامور الذي يطيع المخلوق في معصية خالقه حيث نفى محمد علي كاشف البحيرة في 11يناير 1809 الى ابي فير و صادر امواله .
و هناك امور اخرى و مظالم يضيق بنا المجال عن ذكرها الا اننا نخلص ان عهد محمد علي كان يتسم بالظلم و الاستبداد و قتل الحريات الفردية و ضرب زعماء الشعب و القضاء على كل مظاهر وجود و حيوية المجتمع و اصبحت مصر هي محمد علي و محمد علي هو مصر الا اننا لا ننكر ان عهده كان مليء بالانجازات المادية و العمرانية في كل اوجه الحياة المصرية (زراعة و صناعة و ري و استصلاح اراضي وادارة و انشاء طرق ونهضة عسكرية و بناء وعمران و قد انشأ بدمنهور مصنعا للغزل به مائة دولاب و ثمانون مشطا كما انشأ مصنع لنسيج الصوف لإنتاج بطاطين الجنود وكانت تنقل من دمنهور إلى مصنع الجوخ ببولاق لكبسها و صياغتها )ص 110المرجع السابق
الا اننا نزعم ان كل هذا لا يساوي قتل نفس بشرية واحدة بغير حق و مما يؤكد وجهة نظرنا ان كل انجازات محمد علي زالت و لم تجد من يحافظ عليها لما مات محمد علي او ضعفت قوته حيث زالت اهم انجازاته في حياته (اتفاقية لندن وما تبعها من تحالف القوى الدولية على محمد علي )حيث خفض عدد الجيش و فرضت على مصر عقوبات اقتصادية انهت وجودها ككيان اقتصادي قوي و مؤثر في العالم و بدات كل الانجازات تتهاوى بعد ذلك و صدق الحق اذ يقول (ان الله لا يصلح عمل المفسدين ).
و ابسط معيار ندلل به على صدق زعمنا ان الشعب المصري المؤمن المجاهد استطاع ان يقهر الحملة الفرنسية و حملة فريزر ثم ارغم كل القوى الدولية الموجودة انذاك على تولية محمد علي ولاية مصر رغم انف السلطان العثماني و الانجليز (حيث كانا يؤيدان الالفي) و فرنسا (حيث كانت تؤيد البرديسي وتدعمه) رغم ان ذلك الشعب في ذلك الوقت كان اضعف حالا من بعد حكم محمد علي حيث انتشر التعليم و اقيم جيش قوي ماديا و اسطول و ادارة موارد بشكل افضل و طرق ونقل و كيان اقتصادي مؤثر دوليا و كيان زراعي وصناعي الا ان مصر خسرت في الجولة الثانية و هي قوية و ذلك لسبب بسيط انه قد شطبت كلمة مصر و وضع مكانها اسم مكون من كلمتين محمد علي مما يعطينا اكبر دليل على ان أي بناء مهما ارتفع طالما كان على غير منهج الله فهو زائل و نعود مرة اخرى لقوله تعالى (ان الله لا يصلح عمل المفسدين ).
البحيرة و ثورة عرابي :
ادت مظاهر البذخ و الاسراف التي انغمس فيها اسماعيل ابن محمد علي و كذلك اسرة محمد علي ادت الى افلاس خزانة الدولة و تدخل الدول الاجنبية في شئون الحكم فعزلت الخديوي و خلعته و اقامت ابنه توفيق من بعده .
تحملت الاقاليم هذه الديون فكان نصيب البحيرة 32841جنيها مصريا كما تحملت محافظة رشيد 5787جنيها و اصبحت جميع موارد الدولة مرصودة لسداد هذه الديون بالربا الفاحش إلى حساب روتشيلد الانجليزي اليهودي (الذي وعده بلفور رئيس وزراء انجلترا فيما بعد باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين).
و وقفت عقبتان في وجه الخديوي توفيق : الحرية النيابية و اصلاح الجيش و هما المطلبان اللذان نادى بهما احمد عرابي ذلك البطل الاسلامي الصبغة الذي وقف في وجه الخديوي صارخا بشعار عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم امهاتهم احرارا) تلميذ المجاهد جمال الدين الافغاني -رحمه الله- و رفيق الامام الشيخ محمد عبده ابن البحيرة ، اما مجلس النواب فقد افتتح في 26 ديسمبر سنة1881 فهدأت العاصفة و بمقتضى امر الخديوي الصادر في25مارس سنة1882 صار عدد نواب المجلس مائة وخمسة وعشرين منهم خمسة عن مديرية البحيرة و كان لعرب البحيرة في ذلك المجلس عضوان .
و توتر الموقف سريعا حتى قدم اسطول انجلترا الى مصر بقيادة سيمور و ضرب الاسكندرية بناء على مؤامرة الخديوي مع العدو الانجليزي للتخلص من عرابي و هتاف الشعب في كل مكان :
[مين زي العسكر في الطوابي الله ينصرك ياعرابي]
و المظاهرات في الاسكندرية تردد (يا سيمور يا وش النملة مين قال لك تعمل دي العملة).

مواضيع مشابهة: