مملكة العذارى
للدكتور
أحمد زكي أبو شادي






الفصل الأول
ـ ولا فائدة يا أمين من نقاشي ، فهكذا خلقت .....
هكذا تكويني وميولي .... هكذا أنظر إلى الحياة ، ولست شاكية ... وما أنا يا ابن عمي بالتي تجهل مواهبك وشمائلك ... ولو كنت من تستسيغ الحياة الزوجية لما وددت سواك زوجاً لي ، ولكني أنفر منها ولا أهرب من مسئولياتها كما تدعي .
ـ بل أنت تهربين من هذه المسئوليات يا بثينة ، ومن أجل ذلك تكبتين عواطفك كبتاً وتتذرعين بالمنطق المعكوس لإيهام نفسك وإيهامي !.
دار هذا الحوار ختاماً لنقاش طويل في منزل بثينة ... كانت الفتاة في العقد الثاني من العمر ، ولكنها في تفكيرها وحوارها تبدو كأنها في العقد الرابع . كانت رشيقة هيفاء صبيحة الوجه ذات نضارة وجاذبية هما التعريف الناطق بالصبا والحياة ، وعلى جدها كانت كثيرة الدعابة إذا ما تهيأت الفرصة لها أو طاب لها أن تخلقها ، لا يستطيع الناظر إليها أن يصرف نظره عنها في سهولة دون أن يدري سراً لذلك يستطيع تحديده وإن عمم الواصفون في نعته ( بالسكس أبيل ) . لم تكن رائعة الجمال ولكنها في مجموعها شخصيتها وتكوينها كانت نموذجاً خلاباً لأنوثة مهذبة ، وهي هي التي تتبرأ من أنوثتها ، كانت بعينيها النجلاوين وتقاطيع وجهها السمح وبألفاظها الموسيقية الناعمة وبحركاتها الرشيقة وبدمائها الحلوة وبأحاديثها الفاتنة وبثقافتها العصرية التي اكتسبتها من كلية الأمريكان وبمسحتها السكندرية الخاصة وبرقتها على الرغم من تصنعها الرجولة أحياناً .... كانت بكل هذه الصفات وبتحاشيها التزين النسوي المألوف ، صورة من صور الطبيعة الجميلة التي تعبث بها يد الإنسان ... ولا يراها الفنان الشاعر إلا استساغها قصيدة وهاجة لشاعر عبقري مقطور حبس الشعر في نفسه أمداً ثم أطلقه مجلجلاً رائعاً خلاباً دون تصنع ودون بهرج كأنما الطبيعة سكنت طويلاً قبل أن تجيش بخلق هذا النموذج الفذ ... ولا يراها الفيلسوف إلا عرف معنى جديداً للحياة ، وحقد على الموت كيف يمكن أن يمتد يوماً ما إلى مثل هذا الهيكل المقدس ، وعجب من الإنسانية التي لا تعرف معنى السعادة في ذاتها ، وأمامه المثال الذي يرضي العقلين الواعي والباطن معاً ، وفي إرضائهما معاً استكمال السعادة ... ولكن هذه الربة المثالية تتنازل راضية مختارة عن أنوثتها الفذة وتتسم بالرجولة وتتعلق بالمثاليات المجردة وبالأخيلة الشعرية الجامحة وتنهمك انهماكاً في المطالعة وفي الموسيقى والتصوير وفي الفنون الجميلة عامة وقد اقترنت حياتها بها ووهبتها ميولها وغرائزها وهواجسها واستمدت منها كل صفوها وأبت دونها بديلاً .
وكان أمين يكبرها بسنوات قليلة ، وقد عاد حديثاً من الولايات المتحدة الأمريكية بعد تخرجه في جامعة كاليفورنيا متخصصاً في الصناعات الزراعية . كان دمث الأخلاق وافر الشهامة والمروءة مشغوفاً بالعمل المنتج ذا روح اجتماعية سامية . فكان لا يشغل بنفسه وحدها ، وكان يدأب على الكتابة إلى الصحف بمنشوراته الفنية وبمقترحاته لما فيه الخير العام ، وكان لا يتردد في معاونة غيره من القصاد ولو نافسوه في عمله آجلاً . وكان من أسرة ميسرة ، شأنه شأن بثينة التي أحبها حباً عميقاً ، فما رآهما أحد على ألفة إلا تخيلهما زوجين... فما كان يصلح لأحدهما إلا الآخر.
كانت لأمين فرص صالحة للزواج في أمريكا حيث للفتاة الأمريكية من الثقافة والوسامة والجاذبية مالها . ولكنه عاش تلك السنوات يحلم بفتاة طفولته وفياً لها ، وإن لم يفاتحها برغبته في الزواج منها إلا بعد عودته بعامين بعد أن انتظمت أعماله الزراعية ووفق إلى نجاح مناحله ... وها هي ذي بثينة في صراحة قاسية تخيب آماله وتحيل قصائد غزله إلى مَرَاثٍ باكية !.
***
وهكذا مرت الأعوام على أمين وبثينة وهما أقرب الأحياء وأبعد المتناجين ، وفتاتنا ساردة في أحلامها الفنية وصاحبنا مكب على أعماله ، ولكن دون أن ينعم بالحياة الزوجية . وقد حاول أهلها أن يقنعوها بالزواج من ابن عمها دون جدوى لأنها لم تستطع أن تقنع نفسها بقيمة الزواج ولا باستساغته ، وأشفق أهله عليه فحاولوا أن يحببوا إليه الزواج من قريبة أخرى مثقفة ولكنه لم يعرهم إلا أذناً صماء ووقف حبه العذري ووفاءه على رفيقة صباه . ناهز أمين الثلاثين ، وتعود أن يجد من اليأس راحة ومن التشاؤم تفاؤلاً ، وجاء الربيع متمهلاً إلى الإسكندرية وجيرتها وحل شهر مايو ، وكان أمين في زيارة بثينة في إحدى الأمسيات يستمع إلى عزفها الجميل على الكمنجة لإحدى المختارات الحبيبة إليه وهي " أمايولا " فقال لها معجباً :
ـ عشرات المرات يا بثينة سمعت هذه القطعة الجميلة ينثرها معزفك وتجود بها أناملك وفي كل مرة أستوعب منك سحراً جديداً ، فالنغم هو أنت وليس لحناً لموسيقى ولا عزفاً لمؤلف !
ـ تماد يا شاعري تماد ، أو اسخر ، إن شئت !
ـ وأي تماد يا عزيزتي في الصراحة الساذجة؟ ألم نتعاهد دائماً عليها ؟
ـ لقد سمعت الأمداح كثيراً حتى أصبحت أخشى التقريظ !
ـ إذن فاسمعي تقريظاً آخر من نوع جديد ، وربما لم تعتبريه تقريظاً لك ... إنني لن أستطيع التنزه معك غداً خلافاً لوعدي السابق ، إذ طرأ ما يدعوني إلى زيارة منحلي الرئيسي لأني أخشى من انثيال النحل ، فإذا وافقت يا بثينة على صحبتي وتمضية اليوم في المنحل ، فإني أعدك بنزهة أجمل من نزهتنا في المكس التي كنا على وعد بها ، كما أنك ستسمعين من أناشيد النحل ما ينافس ألحانك !
ـ ألم أقل لك يا أمين إني أخاف لسعات النحل ، وهذه ليست أولى دعواتك ، فما الذي جد يا عزيزي حتى تريد مني تغيير رأي ؟
ـ الذي جد يا حبيبتي هو موكب الربيع ، فقد جاء هذا العام متأخراً ولكن في بهاء يفوق بهاءه في سابق الأعوام ، وسترين يا بثينة نحلي في فرحة كفرحة الأطفال بالحلوى واللعب ،وفي غناء متواصل ، وهن يجمعن الرحيق من الأزهار ، وكأنه صلوات للطبيعة تفيض بالحنان وبالشكر لها ... وإني أعدك بأن النحل لن يمسك بسوء ، وعلى كل حال فنحلي مؤدبات يعرفن حرمة الجمال ... أنت تمضين أيامك وأعوامك في عوالمك الخيالية ، فتنازلي بصبتي إلى عالمي الصغير الجميل ... إلى " مملكة العذارى " .
فتضاحكت بثينة وسمحت له بقبلة على جبينها ، وافترقا متواعدين على تمضية الغد في " مملكة العذارى " .

مواضيع مشابهة: